## السنوات الخداعات: إنذار نبوي باختلال الموازين وقُرب الساعة
تُعدّ الأحاديث النبوية الشريفة التي تتناول
أشراط الساعة وعلاماتها منارات تهدي الأمة، وتُنذرها بما هو كائن من تحولات جسام
قبيل قيام الساعة. ومن بين هذه الأحاديث، يبرز حديث "السنوات الخداعات" كعلامة
فارقة على انقلاب المعايير واختلال الموازين الاجتماعية والأخلاقية، وهو إنذار
يحمل في طياته دعوة للتفكر والاعتبار.
![]() |
## السنوات الخداعات: إنذار نبوي باختلال الموازين وقُرب الساعة |
**نص الحديث ودلالاته الأولية**
يروي الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- عن
رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال: **"ستَأتي على الناسِ سُنونٌ
خَدَّاعَةٌ يُصَدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصادِقُ ويؤتَمَنُ فيها
الخائِنُ ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ ويَنطِقُ فيها الرُّوَيبِضَةُ. قيل: وما
الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: السَّفِيهُ يتكَلَّمُ في أمرِ العامَّةِ"** (رواه ابن
ماجه وأحمد، وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: **"الرجل التافه يتكلم في أمر
العامة"**.
- يُشير هذا الحديث النبوي بوضوح إلى مرحلة زمنية عصيبة تتسم بانقلاب القيم والمفاهيم، حيث
- الحقائق وتُشوَّه الوقائع. فالموازين التي يُقوَّم بها الناس الأمور تختل اختلالاً شديداً، ليصبح الكاذب في
- موضع التصديق، والصادق في موضع التكذيب. ويُعهد بالأمانات إلى الخائنين، بينما يُتهم الأمناء
- بالخيانة. وفي خضم هذا التردي، يتصدر المشهد ويتحدث في شؤون الأمة من لا علم له ولا كفاءة
- وهم "الرويبضة".
**مفهوم "السنوات الخداعات" وتوقيتها**
يُقصد بـ"السنوات الخداعات" تلك
الأزمنة التي يتفشى فيها المكر والخداع والتضليل. وإن كانت الصفة تُنسب للسنوات
مجازاً، فإنها في حقيقتها وصف لأهل تلك السنوات الذين يمارسون هذه الأفعال. وقد جاءت كلمة "خدَّاعات" بصيغة المبالغة (فعَّادت) للدلالة على كثرة الخداع
وتفشيه. وذكر الإمام السيوطي أن من معانيها أنها سنوات كثيرة المطر قليلة الإنبات،
أو العكس، إشارة إلى خداع المظهر.
- وقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر توقيت هذه السنوات، حيث قال: **"إنَّ الدَّجَّالِ
- سنينَ خدَّاعةً يُكَذَّبُ فيها الصَّادقُ، ويصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويخوَّنُ فيها الأمينُ، ويؤتَمنُ فيها الخائنُ
- ويتَكَلَّمُ فيها الرُّوَيْبضةُ. قيلَ: وما الرُّوَيْبضةُ؟ قالَ: الفُوَيْسقُ يتَكَلَّمُ في أمرِ العامَّةِ"** (رواه أحمد
- وصححه الألباني). فهذه السنوات المليئة بالفتن والتقلبات تسبق ظهور المسيح الدجال، إحدى أكبر
- علامات الساعة الكبرى.
**أبرز سمات السنوات الخداعات**
1. **تضييع
الأمانة وتخوين الأمين وائتمان الخائن:**
تُعتبر
الأمانة ركناً أساسياً في استقامة المجتمعات وصلاحها. وقد حذّر النبي -صلى الله
عليه وسلم- من ضياعها، فقال: **"إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ
السَّاعَةَ. قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ
إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ"** (رواه البخاري). ففي السنوات
الخداعات، يُصبح الأمين – سواء كان أميناً في مشورته، أو في الحفاظ على أسرار
الأمة، أو في أداء عمله بإتقان – موضع اتهام وتخوين. وعلى النقيض، يُصبح الخائن
الذي يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، موضع ثقة وائتمان، وتُسند إليه المهام
والمسؤوليات.
2. **تكذيب
الصادق وتصديق الكاذب:**
إن
شيوع سوء الظن وانعدام الثقة يؤديان إلى تكذيب أهل الحق والصدق والإيمان، في حين
يُحتفى بأهل الباطل والكذب ويُصدَّقون. ولعل أبلغ مثال على ذلك هو تصديق الناس
للدجال الأعور حين يخرج مدعياً الألوهية، ومضللاً إياهم بما يُجرى على يديه من
خوارق ظاهرية بإذن الله، اختباراً للناس. وهذا ابتلاء عظيم يُمتحن به إيمان
العباد، ويُصبح فيه المرء مؤمناً ويمسي كافراً، أو العكس، من شدة الفتن. وقد أرشد
النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى الاستعاذة بالله من هذه الفتن، والإكثار من
الأعمال الصالحة التي تعصم منها.
3. **نُطق
"الرويبضة" في أمر العامة:**
"الرويبضة" لفظ مُصغَّر يُراد به التحقير، ويُطلق على الإنسان التافه،
قليل الشأن والعلم. وقد فسّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه "السفيه يتكلم
في أمر العامة"، وفي رواية "الفويسق" (تصغير فاسق)، وهو الشخص
الحقير الخسيس الذي لا قيمة له، والذي يترك الاهتمام بمعالي الأمور وينشغل
بسفاسفها.
ومن
صفات الرويبضة:
* أنه لم يكن له شأن
يُذكر أو قدرة على التأثير في الرأي العام، ولكنه في هذه السنوات يتمكن من ذلك
ويتصدر المشهد.
* أنه من أتفه القوم
وأقلهم علماً وعقلاً ومكانة اجتماعية حقيقية.
* غالباً ما يكون همه
منصباً على تحقيق مكاسب دنيوية ومناصب زائلة.
* يُعرف بأنه شخص لا
يُؤبه له في الأحوال العادية، ولكنه يجد الفرصة للبروز في زمن اختلال المعايير.
ويتفق
هذا مع حديث آخر يصف من أشراط الساعة: **"وإذا كانَتِ العُراةُ الحُفاةُ
رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذاكَ مِن أشْراطِها"** (رواه مسلم)، في إشارة إلى تولي
السفهاء والجهال زمام الأمور.
**العبرة والواجب تجاه هذه العلامات**
إن حديث السنوات الخداعات ليس مجرد خبر عن غيب
مستقبلي، بل هو تحذير للأمة وتوجيه لها. فمعرفة هذه العلامات تستدعي من المسلم
اليقظة والحذر، والتمسك بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والحرص على
التمييز بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، والأمين والخائن. كما يتطلب الأمر عدم
الاغترار بالمظاهر الخادعة أو الانسياق وراء دعاوى المتحدثين التافهين الذين لا
يستندون إلى علم أو بصيرة.
- وفي مواجهة هذه الفتن، يكمن العلاج في العودة إلى القيم الإسلامية الأصيلة: تعزيز الأمانة، وتحري
- الصدق، وإسناد الأمور إلى أهلها الأكفاء، واحترام أهل العلم والرأي السديد، والاعتصام بالجماعة
- والدعاء
المخلص لله تعالى بأن يقي الأمة شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الختام
إن هذه النبوءات تُعمّق إيمان المسلم بصدق رسالة
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتُذكره بأن مصير الأمور كلها بيد الله، وأن
العاقبة للمتقين الذين يثبتون على الحق في زمن التقلبات والمحن.